عدد المساهمات : 60تاريخ التسجيل : 15/06/2009العمر : 28
موضوع: *** مغارةُ الشّـيطـــَــان *** بقلمي *** الخميس يونيو 18, 2009 12:23 am
مغارةُ الشّــيطــــــان
منذ قرونٍ سحيقة .. كان الشّمال و الجنوبُ كتلةً واحدة ، رأسها أبيضٌ و ما تحت الصّدر أسود . أبتِ الطّبيعةُ إلاّ أن تلعبَ دور المنصفِ العادل بين نقيضين ، ليبقى الأبيضُ ببياضه ساطعاً كليلةٍ قمراء ، و الأسودُ بسوادهِ حالكاً كعتَمةٍ ظلماء ، و بذلك لا يلتحمُ النّدّانِ يوماً فيصير الأبيض و الأسود رماداً .
حكمتِ المحكمة .. دقّ القاضي هرقل بقبضةِ يده صدرَ الكتلة ، فانفصل البياض بقلبه و كتفيه و رأسه و احتلّ قِمّةَ الشمال ، بينما بقيَ السوادُ ببطنهِ و رجليه في الأسفل مكتفِياً بالجنوب ، فأمسى الشمال منذ حينها بأعضائه المنفصلة يدبّر و يفكر و يكِرّ ، و الجنوب بكرشه و ساقيه يلتهمُ و يفِرّ .
ماتَ هرقل .. اِستحوذ الشيطانُ على مغارتِه المطلّةِ على البحر عند نقطةِ الانفصال ، تلك التي كانت قبل موته هدفَ قبضتِه و محكمةََ قضائِه .
ضحك الشيطانُ مِلءَ شدقيْه مستهزءً بأحكامِ قاضي القضاة ، إذ كيفَ لهرقل أن يفصلَ بينَ البياضِ و السّوادِ تجنّباً للرّماد ، في حينٍ تركَ لليمِّ الأبيض فرصتهُ لمعانقة بحر الظلماتِ الأسود ، فبرز إثرَ ذلك رمادٌ عند خطّ التِحامٍ اِنخفَسَ ماؤه ... برزتِ القروش الرّمادية السمينة ، تترقبُ قدومَ قطيعِ الجواميس البريّة المُطاردَة من قِبَلِ دناصير اليابسة السوداء .
من فوق أعلى المغارة ، مدَّ الشيطانُ الشّمالَ بالدُّبُر ، موجِّهاً بوقََهُ نحوَ جنوبِ الصّحراءِ المنكسر .. يصيحُ بأعلى صوتِه كمُنادٍ ينادي في محطّةٍ للمسافرين :
ـــ سْبَنيولْ الطّاليان .. فرنسا لـَـلــْــمانْ .. باقي بْلاصا .. البابور غادي يـْــدِمَاري ...
ليلةٌ تنعمُ بالهدوءِ و الاطمئنان .. ترتشِفُ فِنجانَ النّدى في انتظارِ عرضٍ تقشعِرُّ لهُ الأبدان .. عليلةٌ نسماتُ البحر و الأمواجُ تصارعُ جنبات المغارة .. ضبابُ بحرٍ نسجَتهُ ليالي الخريفِ الدّافئَةِ الرّطبة ، يَمُّ الرّومِ يغدو هادِئاً مسالِماً كطِفلٍ وديع ، بينما المُحيطُ يبدو مُخادِعاً إذْ لا يلبَثُ أن يزمجِرَ كدِرْياسٍ شنيع .
أقلعتِ المراكِبُ فطابتِ الرّيحُ في الأعالي .. مغامرةٌ بحريةٌ يشوبُها الفزع .. ظلامٌ دامسٌ يوقظُ في الفؤادِ الهلَع ، إلاّ من نورِ باهِتٍ يحجُبُهُ الضّبابُ ينبعثُ من أعالي جبَلِ طارق . طفحتِ الابتسامةُ على الثغور ، كادَ بساطُ الريحِ أنْ يحلّقَ فوق سماءِ بساتينِ زرياب ، و منها يحُطّ الرّحالَ على قِمَمِ مملكةِ الضباب .
صوتٌ غريبٌ يداهِمُ مسامِعَ أبي سيّال - أحد المهاجرين – كادَ يتعرّفُ على صاحبِهِ من خلالِ الأسلوب ، يقتربُ الصوتُ أكثرَ فأكثر ، فيسمعُهُ يُنادي بنبرةٍ يخنقها العتاب :
"" أيُّها الوافِدون ، أينَ المفرّ ؟ القَناعةُ من ورائِكم و العنصُريّةُ أمامكُم ، و ليسَ لكم و الله إلا أنْ تعودوا أدراجكم راضينَ بقسمةٍ قسمها الله لكُم . فالشّعيرُ و الرّاحةُ خيرٌ لكم من البُــرِّ و الفضيحة . عيوني جاحظةٌ و أنواري ساطِعة ، و لن أتركَ الفرصة لحوافركم فتدوسَ بساتيني اليانعة ، لأنّي أعلمُ أنّه إذا ما امتلاتْ لكم البُطون و اشتدّتْ لكم القرون ، ستنْسون أيّامَ البؤسِ و الشّجون و تلازمونَ اللّيالي الحُمرِ و المُجون .. زمنُ الرّبابِ ولّى و اندثر ، يومَ صبغتْ إهابَهُ حمرةُ غروبٍ نسجتها نزواتُ بني الأحمر .""
يلتفتُ أبو سيّال لرفيقِهِ أبو نبَق فيسألهُ مندهشاً :
ـــ هل سمِعت النّداءَ القادمِ من الشّمال ...؟
يُجيبه أبو نبَق و دمعاتُ اليأس تنحدِرُ من مُقلتيه :
ـــ لا .. أظنني كنتُ أثناءها أستمِعُ لنداءٍ قادمٍ من مغارةِ الشيطان ..
أبو سيّال : ـــ مغارةُ الشيطان ...! و ماذا قيلَ في نداءِ الجنوب ..؟
أبو نبقٍ و هو يمسحُ عينيهِ مستسلماً للقضاء :
ـــ هلْ فقدتَ أذنيكَ يا صاحبي ؟ ألَمْ تسمعْهُ للتّوّ ينادي في بوقهِ و يصيح بنبرةٍ مُفعمةٍ بالسخريّةِ و الاستهزاء حيث خاطبنا :
"" أيّها الرّاحلون ، أينَ المفَرّ ؟ حوافِرُ الدّناصيرِ من ورائِكم و أنيابُ القروشِ أمامَكم ، و ليسَ لكُم و الله إلاّ أن تجعلوا من قواربِ الحُرّية و القوت ، لحوداً للمنيّةِ و الموت ..""
تجري الرّياحُ بما لا تشتهيهِ السّفن ، و لا ينفكُّ النّحسُ أن يقتفي أثرَ ذوي المِحَن .. إذا ما لانَ البحرُ الأبيضُ و خضعَ و هَجع ، يُثيرُ ثائرَته بحرُ الظّلماتِ فيثورُ و يبْتلِع .
هبّتْ موجةُ ريحٍ صرصرٍ جنوبيّةٍ عاتية ، اِهتزّتْ لها المراكبُ من كلّ جانب ، عبثتْ بها ذاتَ اليمينِ و الشّمال . تحوّلَ أثناءها سكونُ البحر إلى اضطرابٍ يُسمَعَُ هديرُه من بعيد .. و هناكَ في قلبِ العتمة ، ظهرتْ أشباحٌ بيضاء تناطحُ السّحاب ، يتضاعفُ حجمُها و يشتَدُّ هديرُها كلّما اقتربَتْ ، فتصلُ في الأخير أمواجٌ عاتيةٌ اِمتدَّتْ ألسنتها لتعانِقَ المراكب ، و لتملأ بطونَ أقوامٍ طالها الجَدْبُ و الكُلاحُ في المضارب .
تمثيليةٌ هتشكوكيّةٌ مرعبة ، ترأّسَ الموجُ جينريكها فكان الأروع ، نفخ الريحُ نايَها فتفنّنَ و أبدع ... و رقص الشيطانُ على إيقاعِ ألواحٍ كانت قبلَ اليومِ أملاً شاطؤُهُ العدم .
اِنتهت
عبـــــدو
ملحوظة : مغارة هرقل التاريخية هي واحدة من أكبر المغارات في أفريقيا، تقعُ على سواحل مدينة طنجة ، و بالضبط عند ملتقى البحر الأبيض المتوسط و المحيط الأطلسي ، يعود تاريخها إلى 2500 سنة قبل الميلاد ، و هي تعتبر واحدة من أجمل المعالم التاريخية في المغرب .
سيف المنتدى مشرف
عدد المساهمات : 60تاريخ التسجيل : 15/06/2009العمر : 28
موضوع: رد: *** مغارةُ الشّـيطـــَــان *** بقلمي *** الخميس يونيو 18, 2009 12:26 am